نظام البريد في ظل الخلافة الإسلامية
اتسعت رقعة الدولة الإسلامية، وازدادت الحاجة إلى إنشاء نظام إداري يضمن وصول الرسائل بين عاصمة الخلافة ومدن دار الإسلام، وخاصة المراسلات بين الخليفة والولاة، فقام معاوية بن أبي سفيان بتطوير نظام التراسل، المعروف لدى الفرس والبيزنطيين، وهو النظام الذي أحكمه الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان ومن جاء بعده من خلفاء بني أميّة، وفي عهد العباسيين كانت أهم أعمال محمد المهدي تنظيمه البريد، وتعميمه بين المدائن العظيمة، وقال صاحب البداية والنهاية: إنّه أمر بإقامة البريد بين مكة والمدينة واليمن، ولم يفعل أحد هذا قبل هذه السنة (أي سنة ست وستين ومائة).
وذكر السيوطي أنّه في هذه السنة تحول المهدي إلى قصره المسمى بعيساباذ، وأمر فأقيم له البريد من المدينة النبوية، ومن اليمن ومكة إلى الحضرة بغالاً وإبلاً، قال الذهبي: وهو أول من عمل البريد من الحجاز إلى العراق؛ ومما أحدثه الملك الظاهر أيضا البريد في سائر ممالكه، بحيث إنه كان يصل إليه أخبار أطراف بلاده على اتساع مملكته في أقرب وقت.
معنى البريد:
فسّر الرازي في مختار الصحاح معنى البريد فقال: البريد المرتب، يقال: حمل فلان على البريد، والبريد أيضا اثنا عشر ميلا، وصاحب البريد قد أبرد إلى الأمير فهو مبرد، والرسول بريد، قلت قال الأزهري: قيل لدابة البريد بريد لسيره في البريد، وقال غيره: البريد البغلة المرتبة في الرباط، تعريب (بريده دم) ثم سمي به الرسول المحمول عليها، ثم سميت به المسافة، والبريد في الأصل البغل، وهي كلمة فارسية أصلها (بريده دم) أي محذوف الذنب ؛ لأن بغال البريد كانت محذوفة الأذناب، فعرّبت الكلمة وخففت، ثم سمي الرسول الذي يركبه بريداً، والمسافة التي بين السكتين بريدًا.
وسائل نقل البريد:
تحدثت كتب السيرة النبوية عن الرسائل التي أرسلها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والأمراء، يدعوهم فيها إلى الإسلام، وهي أشبه بالرسائل الدبلوماسية التي يحملها السفراء، وعرف المسلمون في ظل الدولة وسائل نقل البريد البري على ظهور الدواب، باستخدام البغال والخيول والجمال، والبريد الجوي باستخدام الحمام الزاجل، والبريد المائي على ظهور السفن عبر البحار والأنهار، وكان عمال الدولة يركبون خيل البريد ودوابها إلى البلاد البعيدة، ويحملون عليها متاعهم؛ لأنّها كانت منظّمة وآمنة، كما كان يحمل عليها الأسرى والعصاة والخفراء والمجنّدون، وإذا طلب الخليفة رجلاً للقائه حمله على البريد.
ولقب ناقل البريد على الخيل بالبريدي، واشتهر ناقل البريد على ظهور الإبل بالنجّاب، أما من كانت توكل إليه مهمة الإشراف على مطارات الحمام (الأبراج) فكان يدعى بالبرّاج.
البريد البري:
اعتمد البريد البري على السعاة، وهم رجال تعودوا الجري والصبر في السير، واستخدم المسلمون الدواب في حمل الرسائل على نطاق واسع، وخاصة البغال، وكانوا يقصون أذيالها تمييزًا لها عن الدواب الأخرى، كما استخدمت الخيول السريعة على نطاق واسع، وكانت محطات البريد المنتشرة على الطرق البرية بين مدن الأمصار الإسلامية تقوم برعاية دواب البريد، وتأمين راحتها وأعلافها، واستبدالها عند الحاجة بدواب أخرى؛ ليتابع حامل الرسائل سفره مسرعًا نحو الجهة التي هو قاصدها، وخاصة إذا كانت الرسائل تتعلق برسائل متبادلة بين الخليفة وعماله، تخص شئون الدولة وأمنها.
وبلغ من ورع عمر بن عبد العزيز أنّه كان لا يحمل على البريد إلا في حاجة المسلمين؛ لأنّ البريد كان مخصّصاً لخدمة الدولة، وكتب إلى عامل له يشتري له عسلاً، ولا يسخر فيه شيئًا، وأن عامله حمله على مركبة من البريد فلما أتى قال: على ماذا حمله؟ قالوا: على البريد، فأمر بذلك العسل فبيع، وجعل ثمنه في بيت مال المسلمين، وقال: أفسدت علينا عسلك.
نظام البريد في بلاد السند:
وتحدّث ابن بطوطة عن نظام البريد الإسلامي في بلاد السند فقال: "وإذا كتب المخبرون إلى السلطان من بلاد السند يصل الكتاب إليه في خمسة أيام بسبب البريد، والبريد ببلاد الهند صنفان، فأما بريد الخيل فيسمونه الولاق، وهو خيل تكون للسلطان في كل مسافة أربعة أميال، وأما بريد الرجالة فيكون في مسافة الميل الواحد منه ثلاث رتب، ويسمونها الداوة، والداوة هي ثلث ميل عندهم يسمى الكروة، وترتيب ذلك أن يكون في كل ثلث ميل قرية معمورة، ويكون بخارجها ثلاث قباب، يقعد فيها الرجال مستعدين للحركة، قد شدوا أوساطهم.
وعند كل واحد منهم مقرعة مقدار ذراعين، بأعلاها جلاجل نحاس، فإذا خرج البريد من المدينة أخذ الكتاب بأعلى يده والمقرعة ذات الجلاجل باليد الأخرى وخرج يشتد بمنتهى جهده، فإذا سمع الرجال الذين بالقباب صوت الجلاجل تأهبوا له، فإذا وصلهم أخذ أحدهم الكتاب من يده، ومر بأقصى جهده وهو يحرك المقرعة حتى يصل إلى الداوة الأخرى، ولا يزالون كذلك حتى يصل الكتاب إلى حيث يراد منه، وهذا البريد أسرع من بريد الخيل.
وربما حملوا على هذا البريد الفواكه المستطرفة بالهند من فواكه خراسان، يجعلونها في الأطباق ويشتدون بها حتى تصل إلى السلطان، وكذلك يحملون الكبار من ذوي الجنايات، يجعلون الرجل على سرير ويرفعونه فوق رؤوسهم".
وقال ابن بطوطة: "وبتنا تلك الليلة على شاطئ الوادي، وقدم علينا في صبيحتها ملك البريد واسمه دهقان، وهو سمرقندي الأصل، وهو الذي يكتب للسلطان بأخبار تلك المدينة وعمالتها، وما يحدث بها، ومن يصل إليها، فتعرفت به ودخلت بصحبته إلى أمير ملتان".
البريد على جناح المسلمين:
عرف اليونان والرومان استخدام الحمام الزاجل، وعرفه العباسيون، واستعملوه للأغراض العسكرية، وكان له ديوان خاص، واستعار المسلمون نظام البريد بالحمام الزاجل، أو حمام الرسائل، وعرف باسم جناح المسلمين، فكان أشبه ببريد الجو، وقد أفرد المسلمون لبريد الحمام ديوانًا خاصًّا، وألفوا جرائد ودفاتر بأنساب الحمام المستخدم، ولتمييزه جعل له من الذهب خلاخيل في أرجله، وألواح في أعناقه، وقد كان المسلمون يستعملون أثناء الحروب اصطلاحًا أشبه بالشيفرة فيما يحمله الحمام من أخبار، حيث كانت تكتب على ورق خفيف يعلق بأجنحته، وقد كثرت أبراج الحمام أو مطاراته في عهد المماليك، وكانت القاهرة مركزه.
وذكر الدكتور القوصي أن الرسائل كانت تكتب بصيغة مقتضبة كالتي تستعمل في البرقيات في وقتنا الحاضر، وتشد تحت جناح الطائر أو ذيله، وأنه كان يكتب صورتان من الرسالة ترسلان مع طائرين يطلقان في أوقات متباعدة، حتى إذا ضل أحدهما أو قتل أو افترسته الجوارح، أمكن الاعتماد على وصول الآخر، وقد جرت العادة ألا يطلق الحمام في الجو الممطر، ولا قبل تغذيته الغذاء الكافي، وكان جل استخدامه في حمل الرسائل العسكرية التي تستدعي سرعة كبيرة، وسرية متناهية، كالإخبار عن تحرك القوات المعادية، وطلب النجدات أثناء الحصار.
ولم تكن قلعة من قلاع المسلمين تخلو من برج للحمام الزاجل، ولا من حظيرة للعناية به وتكثيره، ولا من عمال متخصصين في تربيته وتدريبه، وفي أحلك الظروف كان الحمام يأتي بالفرج، ويحمل رسائل السلام بين المتقاتلين، فقد ذكر أنه خلال حصار أرغون لمدينة المرية أتت حمامة زاجلة بخبر جديد إلى المسلمين، وهو أن المسيحيين قد وافقوا على عقد الصلح مع المسلمين، فكانت فرحتهم بهذه الحمامة لا توصف.
ونقل الدكتور العدوان عن المقريزي في خططه أن الحمام قد ساهم في إطلاع حكام المسلمين على كل ما يتجدد في الثغور وغيرها، فقد جرت العادة أن يطلع نواب المملكة السلطان بما يتجدد عندهم على أيدي البريدية، وتارة على أجنحة الحمام، فتعود عليهم الأجوبة السلطانية وعليها العلامة.
وروى المقريزي أنه في عام 727/1326 أرسل متولي الإسكندرية يخبر السلطان بالأحداث التي تفجرت بين المسلمين وتجار الفرنج، فأرسل السلطان أوامره بطريق الحمام بالقضاء على الفتنة.
نظارة البريد:
اتسعت مهام صاحب البريد في العصر العباسي، فلم تقتصر على نقل أوامر الخلفاء إلى الولاة، وأخبار الولاة إلى الخلفاء، وأضافوا إلى مهامه الأساسية مهمة موافاة الخليفة بكل الأخبار والحوادث التي يمده بها أعوانه المنتشرون في أنحاء الأقاليم، أي أنه كان رقيبًا ومفتشًا وعينًا للخليفة، يرفع التقارير عن أحوال الجند والمال وأحكام القضاة، وأسعار الحاجيات من قمح وحبوب ومأكولات وغيرها، فكان عمله يشبه نظام المخابرات والشعبة السياسية، كما كان من جملة أعماله أيضًا حفظ الطرق وصيانتها من القطاع والأعداء والجواسيس.
وتحدث لويس سيديو عن عناصر الحضارة التي أدخلها الأغالبة إلى إفريقية فقال: "لم يدخر بنو الأغلب وسعًا في إنعاش ما يستلزمه كل بلد غني خصيب من التجارة والصناعة والزراعة، فسهلوا الصلات بين سكان الصحراء وسكان الساحل بما أوجدوه من المستودعات، وأنشئوا الطرق، وسهروا على سلامة المواصلات، وأحدثوا نظارة عامة للبريد بين حدود المغرب ومصر، ثم أقاموا دورًا للصناعة في أهم المرافئ، فكان لهم أسطول قوي أضحوا به سادة البحر".
مراقبة انشغال الولاة باللذات عن أحوال الرعيّة:
ومما يروى أنّه وصل كتاب صاحب البريد بخراسان إلى الرشيد ويحيى جالس بين يديه ومضمون الكتاب أن الفضل بن يحيى متشاغل بالصيد، وإدمان اللذات عن النظر في أمر الرعية، فلما قرأه الرشيد رمى به إلى يحيى وقال: يا أبت اقرأ هذا الكتاب، واكتب إليه بما يردعه عن هذه، فكتب يحيى على ظهر كتاب صاحب البريد "حفظك الله يا بني وامتع بك، قد انتهى إلى أمير المؤمنين ما أنت عليه من التشاغل بالصيد ومداومة اللذات عن النظر في أمر الرعية ما أنكره، فعاود ما هو أزين بك، فإنه من عاد إلى ما يزينه، وترك ما يشينه لم يعرفه أهل بلده إلا به والسلام".
صاحب البريد يكتب للخليفة عن الحوادث النادرة:
وكان صاحب البريد يكتب للخليفة ما يقع في منطقته من الحوادث النادرة، فقد وقع طائر أبيض دون الرخمة وفوق الرخمة على دلبة بحلب لسبع مضين من رمضان، فصاح يا معشر الناس اتقوا الله الله الله حتى صاح أربعين صوتًا، ثم طار وجاء من الغد فصاح أربعين صوتًا، وكتب صاحب البريد بذلك، وأشهد خمسمائة إنسان سمعوه. ( هذا الخبر قد يكون من النوادر التي كان يحرص السابقون على تدوينها في كتبهم دون أن يكون لها أدنى وجه من الصحة).
وربما استعان الخليفة أحيانًا بصاحب البريد لرسم خطة الحرب، والوقوف على أفضل الطرق لمباغتة عدو، أو إنشاء كمين بسبب معرفته الواسعة بطرق المواصلات، ومواقع الموانئ والأنهار والجسور.
ومن إمارات اهتمام أبي جعفر المنصور وعنايته بالبريد أنه كان إذا صلى المغرب وافاه صاحب البريد بما حدث في بياض النهار، وإذا صلى الصبح كتب إليه بما جرى في سواد الليل، وقد مكنه هذا الاطلاع الدقيق على أحوال البلاد من الإشراف بنفسه على شئون الرعية، وإعادة الحق إلى نصابه ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
لم يكن يفوت ملوك المسلمين العلم بالخير والشر:
أوصى نظام الملك الطوسي الملوك بأن يتحروا أحوال الرعية والجيش، وكل بعيد وقريب، وأن يعرفوا كل كبيرة وصغيرة في المملكة، فإن لم يفعلوا فسيكون هذا عيبًا ومأخذًا يأخذه الناس عليهم، ويحملونه محمل الغفلة والتهاون والظلم، ويقولون: إما أن الملك يعلم بأمر الفساد والسرقة والنهب المتفشي في المملكة، وإما أنه لا يعلم، فإن يكن على علم به ولا يمنعه أو يقف في وجهه فلأنه ظالم، وعن الظلم راض، وإلا فهو غافل قليل الدراية والاطلاع، وكلا الأمرين غير محمود، ولا بد من صاحب البريد.
لقد كان للملوك في كل الأحقاب في الجاهلية والإسلام أصحاب بريد في كل المدن لم يكن يفوتهم العلم بما يحدث من خير وشر؛ حتى إذا ما غصب شخص آخر دجاجة أو مخلاة تبن على مرمى خمسمائة فرسخ، فإن الملك كان يعلمه، ويأمر بتأديبه ومعاقبته؛ ليعرف الآخرون أنه يقظ، وأن له مخبرين في كل مكان، وأنه يضرب على أيدي الظالمين، فكان الناس ينصرفون إلى الكسب والإعمار والبناء في ظل الأمن والعدل.
إن هذه المهمة دقيقة وشاقة يجب أن يعهد بها لمن لا يساء الظن بهم وبألسنتهم وأقلامهم، ولا يجرون وراء أغراضهم ومصالحهم الخاصة؛ لأن صلاح المملكة وفسادها مرهون بهم، وينبغي أن يعين هؤلاء من لدن الملك نفسه، وأن تدفع لهم أجورهم ورواتبهم من الخزانة؛ كي يقوموا بواجباتهم على النحو الأفضل، وهم مطمئنو البال، ويجب ألا يعرف أحد غير الملك بالمهام التي يؤدونها؛ حتى إذا ما أخبر بأمر جديد يقضي بما يراه مناسبًا، فينال كل شخص ما يستحق من عقاب وجزاء أو مكافئة وهبة وتقدير بغتة، ودون أن يدري.
وإذا ما سارت الأمور على هذا النحو، فسيحرص الناس على طاعة الملك والخوف من عقابه دائمًا، ولن يجرؤ أحد على عصيانه والخروج عليه، أو حتى مجرد التفكير في ذلك، إن وجود مهمة صاحب البريد ومنهي الأخبار لدليل على عدل الملك ويقظته، وقوة رأيه، وعلى إعمار الدولة أيضًا.
اختيار صاحب البريد الثقة:
بث السلطان محمود أصحاب البريد ومنهي الأخبار في كل مكان؛ حتى إنه كان يعرف وهو بالري ما إذا غصب شخص آخر دجاجة في غزنين، أو صفعه على وجهه دون حق، فيأمر بمجازاته، وقد درج الملوك على هذا منذ القدم إلا آل سلجوق الذين لم يأبهوا لهذا الأمر.
وتحدّث نظام الملك عن قصّة ألب أرسلان وصاحب البريد فقال: لما قال أبو الفضل السجستاني للسلطان الشهيد ألب أرسلان: لمَ لا يوجد لك صاحب بريد؟ أجابه أتريد أن تذرو ملكي الرياح، وتفرق عني أنصاري، قال: لماذا؟ قال السلطان: إذا ما اتخذت صاحب بريد فإن محبيّ والمقربين مني لن يأبهوا له، أو يدفعوا إليه رشوة لصداقتهم لنا وقربهم منا، أما أعدائي فسيصادقونه ويغدقون عليه الأموال، وما دام الأمر كذلك فإن صاحب البريد لا ينهي إلينا سوى الأخبار السيئة عن الأصدقاء، والأخبار الحسنة عن الأعداء، وما الأخبار السيئة والحسنة إلا كرمايتك عددًا من السهام التي لا بد أن يصيب أحدها الهدف في النهاية، وهذا مدعاة لأن يزيد في حقدنا على الأصدقاء والمخلصين يومًا عن يوم، فننبذهم ونحل الأعداء محلهم، وحين نتلفت حوالينا نجد أن جميع الأصدقاء والمحبين قد ابتعدوا عنا في مدة يسيرة، وأن الأعداء والحاقدين أخذوا أمكنتهم وحلوا فيها، وحينئذ تختل الأمور اختلالاً يصعب تلافيه، ولكن من الأولى اتخاذ صاحب بريد، فهذا الأمر قاعدة من قواعد الملك، فإذا ما كان صاحب البريد ثقة على النحو الذي ينبغي أن يكون، فإن الملك لا يشغل باله في أي أمر من الأمور التي ذكرنا".
ثقافة البريدي:
تطلّبت المهام التي ألقيت على كاهل البريدي أن يتقن كتابة الرسائل، وفن التوقيعات، ويحسن مخاطبة الخلفاء وعظماء الدولة، وأن يكون على معرفة كاملة بالطرق والأنهار والتضاريس، والمسافات بين المدن وحواضر الدول، حتى إنّ أبا القاسم عبيد الله المشهور بابن خرداذبه الذي كان يتولّى البريد والخبر ببلاد الجبل ألّف كتاب (المسالك والممالك)، وعليه أن يحسن إدارة من يعمل تحت يده من السعاة والنجابين والبراجين، ويملك شيئًا من معرفة طبائع الحمام والخيول والبغال.
البريد وسيلة سريعة للسفر:
وكان يستعان بخيل البريد للإسراع في السفر، وتتحدّث الرواية أنّه لما اشتد وجع معاوية بن أبي سفيان كتب إلى ابنه يزيد أدركني، وسرج له البريد، فخرج يزيد وهو يقول:
جـاء البريـد بقرطاس يخب بـه * فأوجس القلب من قرطاسه فزعـا
قـلنا: لك الويـل ماذا في كتابكم * قالوا: الخليـفة أمسى مثبتا وجـعا
فمادت الأرض أو كادت تميـد بنا * كأن أغبـر من أركانـها انقطـعا
من لا تزل نفسه توفي على شرف * توشك مقاليـد تلك النفس أن تقعا
لما انتهيـنا وباب الـدار منصفق * وصوت رملة ريع القـلب فانصدعا
البريد لنقل الرسائل والهدايا بين الدول:
روى الطبري في تاريخه أنّ أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب أرسلت إلى ملكة الروم بطيب ومشارب وأحفاش من أحفاش النساء ودسته إلى البريد، فأبلغه لها وأخذ منه، وجاءت امرأة هرقل وجمعت نساءها وقالت: هذه هدية امرأة ملك العرب وبنت نبيهم، وكاتبتها وكافأتها، وأهدت لها، وفيما أهدت لها عقد فاخر، فلما انتهى به البريد إلى عمر أمره بإمساكه، ودعا الصلاة جامعة فاجتمعوا، فصلى بهم ركعتين وقال: إنه لا خير في أمر أبرم عن غير شورى من أموري، قولوا في هدية أهدتها أم كلثوم لامرأة ملك الروم فأهدت لها امرأة ملك الروم، فقال قائلون: هو لها بالذي لها، وليست امرأة الملك بذمة فتصانع به، ولا تحت يدك فتتقيك، وقال آخرون: قد كنا نهدي الثياب لنستثيب، ونبعث بها لتباع ولنصيب ثمنا، فقال: ولكن الرسول رسول المسلمين، والبريد بريدهم، والمسلمون عظموها في صدرها، فأمر بردها إلى بيت المال، ورد عليها بقدر نفقتها.
البريد ينقل أسعار السلع وأحكام القضاة وما يرد بيت المال:
ذكر المؤرّخون أنّ من مهام البريد اليوميّة تزويد الخليفة بأسعار السلع، وأحكام القضاة، وما يرد بيت المال، ومنهم صاحب المنتظم حيث يقول: وكان المنصور يشتغل في صدر نهاره بالأمر والنهي والولايات والأطراف والنظر في الخراج والنفقات ومصالح الرعية، فإذا صلى العصر جلس لأهل الحاجات، فإذا صلى العشاء نظر فيما ورد عليه من كتب الثغور والأطراف، وشاور سماره، وكانت البريد يكتبون إليه كل يوم بسعر القمح والحبوب والإدام، وكل ما يقضي به القاضي نواحيهم، وما يرد بيت المال، وكل حدث، فإذا صلى المغرب يكتبون إليه بما كان ذلك، وإذا نظر في كتبهم فإن رأى الأسعار على حالها أمسك، وإن تغير شيء منها كتب إلى العامل هناك وسأله عن العلة، فإذا ورد الجواب تلطف حتى يعود سعر ذلك البلد إلى حاله، وإن شك في شيء مما قضى به القاضي كتب إليه في ذلك، وسأل من بحضرته عن علمه، فإن رآه أخطأ في شيء كتب إليه يوبخه ويلومه، فإذا مضى ثلث الليل قام إلى فراشه، وانصرف سماره، فإذا مضى الثلث الباقي قام فأسبغ الوضوء ووقف في محرابه حتى يطلع الفجر.
مراقبة تصرّفات الولاة الماليّة:
وخضع الولاة لمراقبة صاحب البريد في المناطق البعيدة عن حاضرة الخلافة، وكان من الصلاحيّات الممنوحة إليه مراقبة التصرّف بالأموال العامّة، حتى ولو كانوا أبناء الخلفاء.
حدث أبو قدامة عن المؤمل بن أميل قال: قدمت على المهدي وهو بالري، وهو إذ ذاك ولي عهد، فامتدحته بأبيات فأمر لي بعشرين ألف درهم، فكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور -وهو بمدينة السلام- يخبره أن المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم، فكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه، فطلب فلم يجدوه، فكتب إلى أبي جعفر أنه قد توجه إلى مدينة السلام، فأجلس قائدًا من قواده عند جسر النهروان، وأمر أن يتصفح وجوه الناس رجلاً رجلاً، فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح من فيها، حتى مرت به القافلة التي فيها المؤمل فتصفحه.
فلما سأله: من أنت؟ قال: أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر، أحد زوار الأمير المهدي، قال: إياك أطلب، قال المؤمل: فكاد قلبي ينصدع خوفًا من أبي جعفر، فقبض علي وسلمني إلى الربيع، فدخل بي إلى أبي جعفر، وقال: هذا الشاعر الذي أخذ من الأمير المهدي عشرين ألف درهم، قد ظفرنا به، قال: أدخلوه إليّ، فأدخلت فسلمت عليه تسليم مروع، فرد علي السلام، وقال: ليس ها هنا إلا خير، أنت المؤمل بن أميل؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين أنا المؤمل بن أميل، قال: أتيت غلامًا غرًا فخدعته، قلت: نعم، أصلح الله أمير المؤمنين، أتيت غلامًا غرًا كريمًا فخدعته فانخدع، قال: فكأن ذلك أعجبه، فقال: أنشدني ما قلت فيه، فأنشدته ما قلت، فقال له المنصور: قد والله أحسنت، ولكن هذا لا يساوي عشرين ألف درهم، فأين المال؟ قال الشاعر: ها هوذا، قال: يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم، وخذ منه الباقي، ففعل ما أمره به المنصور.
قطع البريد يعني العصيان:
وكان استمرار الاتصال بين المركز والأطراف يعني استمرار الولاء والطاعة، أما قطع البريد عن الخليفة فيعني إعلان العصيان عليه.
قيل: إنّه لمّا بلغ المأمون عزل أخيه القاسم -وكان الرشيد قد أوصى من بعده للأمين والمأمون والقاسم- قطع البريد عن أخيه الأمين، وأسقط اسمه من الطرز والضرب.