ثورة الخيام
لم يكن الخيام صوفيا ولكنه كان زاهدا عفيفا
تأثر بأفكار المعري واقترب من أدبه وطراز تفكيره
بقلم : جهاد فاضل ..
ما إن يصدر كتاب جديد عن عمر الخيام باللغة العربية، في هذه العاصمة العربية أو تلك، إلا ويزاحمه بعد حين كتاب جديد عنه، فالخيام لا يزال يغري الكثيرين بتناوله ودراسته، وكذلك بنقل رباعياته، أو بعضها على الأقل، إلى العربية. وإذا كان الكتاب الصادر عن منشورات الجمل في بيروت عن الخيام وعنوانه «ثورة الخيام» لعبد الحق فاضل (وهو باحث وسفير عراقي سابق في الصين) هو أحدث ما أصدرته دور النشر العربية عن صاحب الرباعيات الشهيرة، فإن إحدى مقدمات الكتاب تفيد بأن طبعته الأولى صدرت عام 1961 في القاهرة عن لجنة التأليف والترجمة والنشر» التابعة لجامعة الدول العربية، وضع هذه المقدمة العلامة المصري أحمد أمين الذي كان يشرف على هذه اللجنة في حينه، ويبدو أن أحمد أمين قد خاف من أن توجه إليه وإلى «لجنته» تهمة الترويج للإباحية (التي تنضح برأيه من رباعيات الخيام)، فآثر أن ينفض يده مسبقا من هذه التهمة ويقدم أسبابه للإذن بنشرها.. كان الزمن (عام 1951 أي قبل أكثر من ستين سنة من اليوم) زمنا محافظا كان أحمد أمين من هؤلاء المحافظين فدبج لكتاب عبد الحق فاضل الخيام مقدمة محافظة أشار فيها إلى ما في رباعيات الخيام من شذوذ وشرور، محذرا القارئ مسبقا من اعوجاج طرق الخيام، يقول أحمد أمين: «لقد ترجمت هذه الرباعيات إلى اللغة العربية مرارًا وتقبلها الناس قبولًا حسنا، لما فيها من شذوذ أحياناً، ودعوة إلى الإمعان في اللذة أحيانًا، وأنا لا أوافقه على هذه الدعوة ولا على هذا الشذوذ لأنه كما قال الفيلسوف كانت: «إذا أردت أن تعرف شيئا أصحيح هو أم فاسد «فعمّمه» ونحن لو عممنا هذا المسلك لكان الناس كلهم إباحيين متلذذين بوهيميين لا يأبهون لشيء إلا للخمر والنساء.
ولو تصورنا مجتمعاً هذا شأنه لكان مجتمعاً منحطاً يسرع إليه الفناء».
ويرى أحمد أمين أن الخيام في مهاجمته للماورائيات إنما هو مقلد لأبي العلاء المعري في لزومياته، ولكننا اعتدنا أن نسمع من مشايخنا قولهم «ناقل الكفر ليس بكافر».. وعلى هذا الأساس أقدمنا على طبع هذا الكتاب لنضع بين يدي القارئ خيرا كثيرا وشرا كثيرا، ثم يأخذ كل ما يرشده إليه عقله وطبيعته كما يأخذ الحنظل والورد.. وكل هذا يعني أن أحمد أمين احتاط مسبقا لأي تهمة يمكن أن توجه إليه وحذر القارئ مما سيصادفه خلال إبحاره في الكتاب الذي وضعه عبدالحق فاضل عن الخيام، وكذلك في الرباعيات التي ينقلها للخيام عن الفارسية مباشرة.
مقدمة أخرى للكتاب وضعها هذه المرة سعيد نفيسي أستاذ تاريخ الأدب وتاريخ التصوف وتاريخ التمدن في جامعة طهران والعضو الدائم في المجمع العلمي الإيراني (في العام 1950) عندما كان عبدالحق فاضل يعمل قنصلا للعراق في طهران، يقول نفيسي: «في صيف هذا العام سرني الشاعر المغلق عبد الحق فاضل برؤيته، وتلا عليّ بعض رباعيات الخيام التي ترجمها حديثا باللغة العربية بمقدرة بالغة وحذق يبعث على الدهشة.. إن هذا الحكيم النيسابوري الكبير (يقصد الخيام) هو أسعد شعراء الدنيا حظا في الحقيقة إذ يتاح له مثل هؤلاء المترجمين والمعرفين الأفذاذ في مختلف اللغات».
ويعبر سعيد نفيسي عن انبهاره بجودة ما أنجزه عبد الحق فاضل: «لقد قرأت كتابه بإمعان. لم يبلغ أحد هذه الدرجة من الجمال في تحليل نفس الخيام واكتناهها وتمحيص أفكاره، لقد استهواني هذا الكتاب إلى حد صرت معه أترصد بفارغ الصبر ذلك اليوم الذي أقرأ فيه نسخته المطبوعة مرارا عديدة أخرى. وأني لا أعرض هذه الأمنية جادا كل الجد بلسان القلم وحسب، وإنما أنا أشكر كذلك المؤلف والمترجم عن كل عشاق آثار الخيام أن هيأ مثل هذا السفر الخطير وعرف الخيام بكل هذه المقدرة والبصيرة الثاقبة إلى أبناء الدنيا».
ولم يبالغ سعيد نفيسي فيما أسبغه على الكتاب ومؤلفه من الإعجاب العميق، فالكتاب من أجمل وأوفى ما صدر عن الخيام باللغة العربية: ثمة قسم أاول مخصص لسيرة الخيام من جوانبها المختلفة، وعرض ونقد لما كتب عن الرباعيات وما أثير بصددها. وهناك قسم ثان حوى ترجمة عبد الحق فاضل للرباعيات، وفي ترجمة مدهشة في الكمال الذي بلغته، وفي التعبير العربي المبين الذي اكتسته.
وإذا لم يكن الآن مقام المقارنة بين هذه الترجمة والترجمات العربية الأخرى إلى العربية، وأشهرها ترجمة أحمد رامي وأحمد الصافي النجفي ووديع البستاني ومحمد السباعي، فلا شك أن إعادة إصدار كتاب «ثورة الخيام» من شأنه أن يتيح للقراء العرب وبخاصة للباحثين والدارسين فرصة الاطلاع على ترجمة عبدالحق فاضل لهذه الرباعيات، وكذلك إمكانية عقد المقارنة التي نشير إليها، فالكتاب في الواقع إضافة ثمنية لتراث الخيام باللغة العربية وهو تراث تربطه وشائج وثيقة بهذا التراث، فالخيام عالم إسلامي وكان فقيها وعالما بالشريعة، كما كان عالم فلك ورياضيات.
وهو بالإضافة إلى كل ذلك من تلاميذ أبي العلاء المعري في بعض جوانب نظرته إلى هذه الدنيا، ومنها الشك والحيرة والتشاؤم، ولو المختلف بعض الشيء عن تشاؤم المعري.
دفع التشاؤم بالمعري إلى نفض يده من هذه الدنيا والانصراف إلى ذلك التأمل الشجي الحزين والقاسي. في حين دفع التشاؤم بالخيام إلى الإقبال على ملذات هذه الدنيا لأنه لا يملك سوى هذا الإقبال طالما «أن الغد هو بظهر الغيب» كما يقول، ولأن الظن كثيرا ما يخيب في المقبل، فلم يبق إذن سوى الحاضر وانتهاب لذاته!.
ويبدو أن الخيام اطلع اطلاعا مباشرا على أدب المعري وعلى الأدب العربي بوجه عام لأن الدارسين ينسبون له أشعارا بالعربية قد يكون بعضها منحولا عليه، ولكن البعض الآخر قريب في لغته ومعانيه من شعره الفارسي.
ومن أطرف ما يحويه الكتاب فصل بعنوان «الالحاد الرياضي».
المعروف أن الخيام كان رياضيا، فهو أخو اعداد مضبوطة وأشكال هندسية منتظمة يحسبها بالمنطق الرياضي الدقيق الذي لا يقبل زيادة ولا نقصا. ويبدو أن الخيام اصطحب معه هذا العقل الرياضي إلى عالم رباعياته، فانتفع به أيما انتفاع في مناقشاته واستنتاجاته.
لننظر إلى هذه المسألة الحسابية:
قيل في الجنة حور قاصرات الطرف عين
وخمور جاريات في نهور وعيون
أي ضير إن طلبنا الحور والخمر هنا؟
إن هذا هو عقبى الأمر فيما يذكرون!
فهو يأتي أولا (بالفرضية) ثم يأتي (بالبرهان الرياضي).
وانظر إلى هاتين المعادلتين التاليتين:
أنت يا ربي كريم، أنت ذو لطف ومن ِ
فلماذا تطرد العاصي عن جنة عدن
ليس جودا منك أن تعطيني عن حسناتي
إنما جودك أن تؤتيني عن سيئاتي!
ولنتأمل هذه المناقشة الغريبة:
يعلم الله بشربي هذه الصهباء، قدما
فإذا لم أحسها لم يك علم الله علما
ولنقرأ هذا الاستنتاج الطريف:
قال من صارت له في العلم والتقوى الإمامة:
«يحشر المرء على ما كان إذ لاقى حمامة»
فلنلازم ويحك الحسناء دوما والمدامة
نعسانا هكذا نحشر في يوم القيامة!
وشغلت قضية الثواب والعقاب فكره باعتبارها ثمرة الائتمار بأوامر الدين والانتهاء عن نواهيه، ولكن عقله لم يهده إلا إلى الإنكار:
يا فؤادي لم ير الجنة والنار بشر
أم أتى من ذلك العالم آت بخبر؟
إن ما نرجو وما نخشى منوطان بشيء
ليس يبدو منه إلا اسم ووصف للنظر!
لم تتردد كلمة على لسان الخيام في رباعياته تردّد الخمرة حتى لتخاله في إدمانها والوقوف عليها شبيها بأي نواس، على حين نجهل أنه قد ذاقها في حياته قط. ولقد حدا هذا ببعضهم أن يتوهم أنه قصد بها الخمرة الإلهية. وواضح من تأمل رباعياته أنه لم يذق الخمر الإلهية، أبدا.. فما كان الخيام صوفيا، ولا كان له من الصوفية نصيب غير القناعة الأبية والعزوف عن زخارف الحياة واجتناب فتن السياسة إيثارا للعافية وتفرغا للعلم والتأمل. ولكنه كثيرا ما حمل على المتصوفة في رباعياته وسماهم الزاهدين المنافقين، كما فعل أبو العلاء. وإذا كان أراد بالخمرة شيئا غير بنت العنب، فإنما كنى بها عن هموم المعصية في بعض الأحيان فاتخذها رمزا لما نهى الدين من محرومات ولكن هل شربها؟
عند استعراض رباعياته نجده إذا اخذت بخناقه الهموم دعا بالصهباء:
اسقني الجريال شقراء بلون الأرجوان
أيها الساقي، فإني ضاق بالهم جناني
اسقنيها تذهب العقل ولو بعض أوانِ
علني أذهل عن نفسي وأحداث الزمان
وإذا كان هذا هو شأنه مع الصهباء، فما شأنه مع الحسناء؟
إن دور المرأة في حياة الخيام لأخفى وأعقد، إن ذكره لها في رباعياته كثير، وإن يكن أقل من ذكر الخمرة.. والحق أن مجال التأويل هنا أوسع، فما أكثر من تغزل من الشعراء وتوله بلحاظ الحبيب ومفاتنه، وإذا كان الخيام قد تزوج، فالظاهر أنه لم يكن موفقا في زيجته:
إنما الراحة في الدنيا ولذات الصفاء
خلقت للمطلق الضارب في كل فضاء
فإذا ما أصبح فرد مستريح البال زوجا
فلقد بدل من راحته أي عناء!.
على أن فلسفة الخيام هي بيت القصيد في كتاب عبد الحق فاضل، لأنها موضوع الرباعيات، والواقع أن هذه الفلسفة هي مزاج من الفلسفة اليونانية وعن العقائد الباطنية القائمة على الجدلية الإلحادية، ومن نزعات القرن الخامس الهجري، ومن شخصية الخيام. ولا شك أن الخيام تأثر في الكثير من أفكاره بأبي العلاء المعري. ولد حكيم نيسابور في شيخوخة حكيم المعرة الذي كان حديثه حينذاك قد طبق الآفاق ومات بعده بنحو سبعين عاما، كان الخيام يقرأ الأدب العربي ويحفظه ويرويه، فلا يعقل أن يهمل منه أدب المعري وهو أقرب إلى روحه وطراز تفكيره. وهناك رباعيات للخيام تبدو وكأنها ترجمة لبعض أشعار أبي العلاء.
ولكن كم عدد رباعيات الخيام وكيف تميز بين صحيحها من فاسدها؟
إن التمييز بين صحيح الرباعيات من فاسدها، على أساس القياس، موضع خلاف بين الباحثين ولكل منهم مذهب فيه، وإننا نجد كل واحد منهم يقول هذه الرباعية للخيام وتلك ليست له لعلةٍ لا أعرفها، وإذا وجدنا اثنين من المحققين يتفقان على ما يختاران منها، وجدنا إلى جانبهما أن ما يعده أحدهما رباعية صحيحة لا غبار عليها، يعدها سواه رباعية مدخولة عليها غبار كثير.
ويعترف الباحث والمترجم بعجزه عن تمييز رباعيات الخيام مما عداها تمييزا تطمئن إليه نفسه. لهذا ينفض يده من هذه المهمة التي تبدو أقرب إلى المحال، وقد جمع في كتابه هذا ما استحسنه من جمهرة الرباعيات، فإلا تكن كلها للخيام، فلابد أن الكثير منها له «وما أحسب أن ما فيها يخالف رأيه، ولا أخاله يستاء لو عاد إلى الحياة وقرأ هذه المجموعة ووجد فيها ما ليس له من رباعيات قد عزي إليه، بل لعله يؤسفه إغفالي بعض رباعيات له أهملتها لتكرارها ولإسفافها ظنا مني أنها محمولة عليه، ومهما يكن من الأمر فإن مجموعتي هذه جامعة أكثر منها مانعة. ولا بد أن يكون فيها رباعيات ليست للخيام، وإنما هي في مذهبي رباعيات «مدرسة الخيام» تمثل أفكار الخيام وطائفة من مثقفي عصره وما تلاه من عصور في فارس، تماما كما كانت رسائل إخوان الصفا مثلا تمثل أفكار طائفة أخرى في بلاد العرب».
والظاهر أن عمر الخيام لم يجمع رباعياته في حياته كما جمع أبو الطيب المتنبي ديوانه، وكما جمع أبو العلاء المعري لزومياته وسقط زنده، ولعل الخيام قد جمع رباعياته، بيد أنه لم يستطع أن يظهر الناس عليها إلا خاصة أصدقائه ومريديه من الذاهبن مذهبه في التفكير.. ولعله كتمها عن أهل زمانه خيفة على نفسه من مغبة ما فيها من خروج أو ثورة.
يقول في إحدى رباعياته:
فصلت أسرار دنياكم لدينا في الدفاتر
قد طويناها، ففي النشر وبال ومخاطر
لم نجد في الناس من يعقل من أهل البصائر
فغدا يعجزنا إظهار ما تخفي الضمائر
وقد اتهموه بالكفر حتى خشي أن يفتكوا به، بل إنه أخبرنا في رباعية له طريفة أن القوم اتهموه كذلك بالفلسفة:
يتظنى الشانئ الواهم أني فيلسوف
علم الله بأني لا كما قال السخيف
بيد أني وأنا في وكر أتراح وبؤس
لا أقل الآن أن أعرف فيه كنه نفسي!
فهو يتنصل من التهمة ويشهد الله على براءته منها مدعيا أنه أراد أن يعرف نفسه ليس إلا. وذلك دفاع فيه مكر كثير، لأن معرفة النفس هي باب الفلسفة في مذهب سقراط، ومشايعيه. ولكن يبدو أن الخيام كان يعتمد على جهل متهميه.
وعندما توفي الخيام كانت رباعياته متفرقة في بطون الدفاتر وعلى أفواه الرواة. وإذا كان قد ترك نسخة في منزله، أو نسخا لدى رواته وتلاميذه تضم رباعياته كاملة، فأمر لا يعلم أحد عنه اليوم شيئا. ولكن بعضهم حاول من غير شك أن تكون له نسخة كاملة.
ولعل بعض مريديه قد نسخ ما ليس لديه منها عن بعضهم، فتم لهم من ذلك ما أرادوا، أو لم يتم لهم من ذلك ما أرادوا، ومع الوقت اختلط ما للخيام وما لغيره وكان لهذا الغير حصة وافية.
هناك خياميون آخرون نظموا على غرار ما نظم، بل هناك متصوفة كانت لهم أيضا رباعيات نسبت فيما بعد للخيام ولعلها ليست له أبدا.
وكان للمجان كذلك رباعياتهم، فيها خمر وفيها صبابة وخلاعة يتغنون بها في الحانات، على أنغام المزاهر ورنات الأقداح.
وأدلى الزهاد بدلوهم في هذه الرباعيات يعبرون بها عن عزوفهم عن عرض الحياة الدنيا وأطماعها. واختلطت هذه الرباعيات كلها برباعيات الخيام اختلاطا أصبح يتعذر معه التمييز بينها ورد كل منها إلى صاحبها، ولا سيما أن أصحابها مجهولون لم يسجل التاريخ اسما لأكثرهم، والمعرفون منهم لم يشتهر أحدهم شهرة الخيام، فأصبحت كل رباعية متشردة لا صاحب لها تنتمي إليه.
ويعترف عبد الحق فاضل بعجزه عن تمييز رباعيات الخيام مما عداها تمييزا تطمئن إليه نفسه، لهذا نفض يده من هذه المهمة التي تبدو أقرب إلى المحال.
لهذا جمع في كتابه ما استحسنه من جمهرة الرباعيات، فإن لم تكن كلها للخيام، فلا بد أن الكثير منها له، ولم يكتف بهذا بالطبع، بل عمد إلى نقله إلى العربية بلغة عربية مبينة، ومن الأصل الفارسي مباشرة وليس عبر لغة أخرى كما فعل كثير من المترجمين. وفي ترجمته التي تشكل النصف الثاني من كتابه ما يؤكد علو كعبه في الترجمة، وفي أمانته للنص المنقول، وفي شاعرية خصبة لا تخفى عن القارئ، نقدم مع هذا المقال نماذج عنها.